رأيت في محمد محمود المشاهد كثيرة .. ما بين طوب وغاز وخرطوش .. وجرحى ومختنقين وقتلى .. مصورين يلتقطون الصور بحماس وشباب يحتمي بالاشجار والسيارات .. أقنعة غاز وكوفيات مربوطة على الوجة .. مابين بخاخات مملوئة بمضادات الحموضة وسوائل ملحية وخميرة مذابة في ماء .. والموتوسيكلات التي تنقل المصابين الى المستشفيات الميدانية وسيارات الاسعاف تولول ذهاباً الى عمق الشارع واياباً الى العيادات المتنقلة .. ومابين الهواء الملبد برائحة الغاز المسيل للدموع المميزة الشبيهة برائحة الكبريت .. استوقفني مشهد محدد ..
في الخطوط الأمامية .. وبالتحديد في أول خط مواجهة .. يقف شاب في منتصف الشارع المظلم تماماً وقد ولى ظهره لتشكيلات الأمن المركزي الواضحة على مرمى البصر .. يمسك في يده دلو مملوء بالماء ويقف في صمت وسكون لا يعبأ بأصوات اطلاق الخرطوش والقنابل التي تصم الآذان من حوله .. حتى اذا رأى قنبلة غاز تسقط قريبة منه .. انطلق كالبرق يجري نحوها فيلتقطها ويغمسها بطول ذراعه في دلو الماء حتى يخمد دخانها تماماً فيلقيها بعيداً ويعود الى حيث كان يقف سابقاً في انتظار القنبلة التالية ..
ظللت في مكاني خلف شجرة عريضة اراقبه لمدة تفوق الخمس عشرة دقيقة وهو يقوم بهذة العملية مراراً بسرعة ومهارة وجرأة يحسد عليها
تمنيت ساعتها لو اني املك نصف شجاعته .. فحينما كان الناس يقذفون حجر أو حجرين ثم يهرعون للاحتماء بأقرب ساتر .. كان يقف هو بلا سواتر على الاطلاق في هدوء مثير .. كان يبدو كمن انفصل عن العالم بأكمله وانصب كل تركيزه على اصطياد القنبلة التالية
من هنا تداخلت المشاهد ولا أتذكر تفصيلاً ماذا حدث ..
كل ما اتذكر هو اننا سمعنا صوت خرطوش يطلق .. لا شيء مميز فقد سمعناه مئات المرات في هذة الليلة وحدها .. ولكن المختلف انه فور سماعي لصوت الطلقة انتفض جسد ذلك الشاب بعنف .. ثم سقط على وجهه بلا حراك ..
هرع اليه ثلاثة من قاذفي الطوب فحملوه وأخذوا يبحثون عن موتوسيكل او سيارة اسعاف لنقله اليها .. جريت ورائهم بلهفة فقد كنت اريد ان اعرف ما اصابه لم استطع النظر الى وجهه بوضوح لكنه لم يكن يتألم فافترضت انه قد فقد الوعي .. لكني رأيت ظهره بوضوح وقد تغطى بعشرات الثقوب الصغيرة المحترقة .. ثم عاد الهرج والمرج ليخفيه عن مجال رؤيتي مرة أخرى
لا أعلم ان كان هذا الشاب لا يزال حياً يرزق أم انه قد استشهد كعشرات غيره .. لكن ما استوقفني هو كم البطولات التي قد تكون ولدت وماتت في الميدان دون ان يشهدها احد ..
شعرت انه من واجبي كتابة هذة التدوينة لتوثيق بطولة هذا الشاب الذي لا اعرف اسمه حتى ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق